فصل: تفسير الآية رقم (115):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»



.تفسير الآية رقم (115):

{قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ (115)}
{قَالَ الله إِنّى مُنَزّلُهَا عَلَيْكُمْ} مرات عديدة كما ينبئ عن ذلك صيغة التفعيل، وورود الإجابة منه تعالى كذلك مع كون الدعاء منه عليه الصلاة والسلام بصيغة الأفعال زظهار كمال اللطف والإحسان مع ما فيه من مراعاة ما وقع في عبارة السائلين، وفي تصدير الجملة بكلمة التحقيق وجعل خبرها اسمًا تحقيق للوعد وإيذان بأنه سبحانه وتعالى منجز له لا محالة وإشعار بالاستمرار، وهذه القراءة لأهل المدينة والشام وعاصم وقرأ الباقون كما قال الطبرسي {مُنَزّلُهَا} بالتخفيف، وجعل الإنزال والتنزيل عنى واحد.
{فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ} أي بعد تنزيلها حال كونه كائنًا {مِنكُمْ فَإِنّى أُعَذّبُهُ} بسبب كفره ذلك {عَذَابًا} هو اسم مصدر عنى التعذيب كالمتاع عنى التمتيع، وقيل: مصدر محذوف الزوائد وانتصابه على المصدرية في التقديرين، وقيل: منصوب على التوسع، والتشبيه بالمفعول به مبالغة كما ينصب الظرف ومعمول الصفة المشبهة كذلك، وجوز أبو البقاء أن يكون نصبه على الحذف والإيصال، والمراد بعذاب وهو حينئذ اسم ما يعذب به، ولا يخفى أن حذف الجار لا يطرد في غير أن وإن عند عدم اللبس، والتنوين للتعظيم أي عذابًا عظيمًا.
وقوله سبحانه وتعالى: {لاَّ أُعَذّبُهُ} في موضع النصب على أنه صفة له. والهاء في موضع المفعول المطلق كما في ظننته زيدًا قائمًا. ويقوم مقام العائد إلى الموصوف كما قيل. ووجه بأنه حينئذ يعود إلى المصدر المفهوم من الفعل فيكون في معنى النكرة الواقعة بعد النفي من حيث العموم فيشمل العذاب المتقدم، ويحصل الربط بالعموم واورد عليه أن الربط بالعموم إنما ذكره النحاة في الجملة الواقعة خبرًا فلا يقاس عليه الصفة وجوز أن يكون من قبيل ضربته ضرب زيد أي عذابًا لا أعذب تعذيبًا مثله، وعلى هذا التقدير يكون الضمير راجعًا على العذاب المقدم فالربط به. وقيل: الضمير راجع إلى «من» بتقدير مضافين أي لا أعذب مثل عذابه.
{أَحَدًا مّن العالمين} أي عالمي زمانهم أو العالمين مطلقًا، وهذا العذاب إما في الدنيا، وقد عذب من كفر منهم سخهم قردة وخنازير. وروي ذلك عن قتادة وإما في الآخرة وإليه يشير ما أخرجه أبو الشيخ. وغيره عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: إن أشد الناس عذابًا يوم القيامة من كفر من أصحاب المائدة والمنافقون وآل فرعون ويدل هذا على أن المائدة نزلت وكفر البعض بعد. وأخرج ابن جرير وغيره عن الحسن ومجاهد أن القوم لما قيل لهم: «فمن يكفر» إلخ قالوا: لا حاجة لنا بها فلم تنزل. والجمهور على الأول وعليه المعول. فقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن عمار بن ياسر موقوفًا ومرفوعًا.
والوقف أصح قال: أنزلت المائدة من السماء خبزًا ولحمًا وأمروا أن لا يخونوا ولا يدخروا لغد فخانوا وادخروا فمسخوا قردة وخنازير وكان الخبز من أرز على ما روي عن عكرمة.
وروي أن عيسى عليه الصلاة والسلام لما سأله قومه ذلك فدعا أنزل الله تعالى عليهم سفرة حمراء بين غمامتين غمامة فوقها وغمامة تحتها وهم ينظرون إليها في الهواء منقضة من السماء تهوي إليهم وعيسى عليه الصلاة والسلام يبكي خوفًا من الشرط الذي اتخذ عليهم فيها فما زال يدعو حتى استقرت السفرة بين يديه والحواريون حوله يجدون رائحة طيبة لم يجدوا رائحة مثلها قط وخر عيسى عليه الصلاة والسلام والحواريون سجدا شكرًا لله تعالى وأقبل اليهود ينظرون إليهم فرأوا ما يغمهم ثم انصرفوا فأقبل عيسى عليه الصلاة والسلام ومن معه ينظرونها فإذا هي مغطاة نديل فقال عليه الصلاة والسلام: من أجرؤنا على كشفه وأوثقنا بنفسه وأحسننا بلاء عند ربه حتى نراها ونحمد ربنا سبحانه وتعالى ونأكل من رزقه الذي رزقنا؟ فقالوا: يا روح الله وكلمته أنت أولى بذلك فقام واستأنف وضوءًا جديدًا ثم دخل مصلاه فصلى ركعات ثم بكى طويلًا ودعا الله تعالى أن يأذن له في الكشف عنها ويجعل له ولقومه فيها بركة ورزقًا ثم انصرف وجلس حول السفرة وتناول المنديل وقال: بسم الله خير الرازقين وكشف عنها فإذا عليها سمكة ضخمة مشوية ليس عليها بواسير وليس في جوفها شوك يسيل السمن منها قد نضد حولها بقول من كل صنف غير الكراث وعند رأسها خل وعند ذنبها ملح وحول البقول خمسة أرغفة على واحد منها زيتون وعلى الآخر تمرات وعلى الآخر خمس رمانات، وفي رواية على واحد منها زيتون وعلى الثاني عسل وعلى الثالث سمن. وعلى الرابع جبن وعلى الخامس قديد فسأله سمعون عنها وأجابه بما تقدمت روايته. ثم قالوا له عليه الصلاة والسلام: إنما نحب أن ترينا آية في هذه الآية فقال عليه السلام: سبحان الله تعالى أما اكتفيتم ثم قال: يا سمكة عودي بإذن الله تعالى حية كما كنت فأحياها الله تعالى بقدرته فاضطربت وعادت حية طرية تلمظ كما يتلمظ الأسد تدور عيناها لها بصيص وعادت عليها بواسير ففزع القوم منها وانحاشوا فقال عليه الصلاة والسلام لهم: ما لكم تسألون الآية فإذا أراكموها ربكم كرهتموها ما أخوفني عليكم بما تصنعون يا سمكة عودي بإذن الله تعالى كما كنت مشوية ثم دعاهم إلى الأكل فقالوا: يا روح الله أنت الذي تبدأ بذلك فقال: معاذ الله تعالى يبدأ من طلبها فلما رأوا امتناع نبيهم عليه الصلاة والسلام خافوا أن يكون نزولها سخطة وفي أكلها مثلة فتحاموها فدعا عليه الصلاة والسلام لها الفقراء والزمنى، وقال: كلوا من رزق ربكم ودعوة نبيكم وأحمدوا الله تعالى الذي أنزلها لكم ليكون مهنئوها لكم وعقوبتها على غيركم وافتتحوا كلكم باسم الله واختتموه بحمد الله ففعلوا فأكل منها ألف وثلثمائة إنسان بين رجل وامرأة وصدروا منها وكل واحد منهم شبعان يتجشى ونظر عيسى عليه السلام والحواريون ما عليها فإذا ما عليها كهيئته إذ نزلت من السماء لم ينتقص منه شيء ثم إنها رفعت إلى السماء وهم ينظرون فاستغنى كل فقير أكل منها وبرئ كل زمن منهم أكل منها فلم يزالوا أغنياء صحاحًا حتى خرجوا من الدنيا وندم الحواريون وأصحابهم الذين أبوا أن يأكلوا منها ندامة سألت منها أشفارهم وبقيت حسرتها في قلوبهم، وكانت المائدة إذا نزلت بعد ذلك أقبلت بنوا اسرائيل إليها من كل مكان يسعون فزاحم بعضهم بعضًا الأغنياء والفقراء والنساء والصغار والكبار والأصحاء والمرضى يركب بعضهم بعضًا فلما رأى عيسى عليه الصلاة والسلام ذلك جعلها نوبا بينهم فكانت تنزل يومًا ولا تنزل يوما فلبثوا في ذلك أربعين يومًا تنزل عليهم غبا عند ارتفاع الضحى فلا تزال موضوعة يؤكل منها حتى إذا قالوا ارتفعت عنهم باذن الله تعالى إلى جو السماء وهو ينظرون إلى ظلها في الأرض حتى توارى عنهم فأوحى الله تعالى إلى عيسى عليه الصلاة والسلام أن اجعل رزقي لليتامى والمساكين والزمني دون الأغنياء من الناس فلما فعل الله تعالى ذلك ارتاب بها الأغنياء وغمصوا ذلك حتى شكوا فيها في أنفسهم وشككوا فيها الناس وأذاعوا في أمرها القبيح والمنكر وأدرك الشيطان منهم حاجته وقذف وسواسه في قلوب المرتابين فلما علم عيسى عليه السلام ذلك منهم قال: هلكتم وإله المسيح سألتم نبيكم أن يطلب المائدة لكن إلى ربكم فلما فعل وأنزلها عليكم رحمة ورزقا وأراكم فيها الآيات والعبر كذبتم بها وشككتم فيها فابشروا بالعذاب فإنه نازل بكم إلا أن يرحمكم الله تعالى وأوحى الله تعالى إلى عيسى عليه الصلاة والسلام إني آخذ المكذبين بشرطي وإني معذب منهم من كفر بالمائدة بعد نزولها عذابًا لا أعذبه أحدًا من العالمين فلما أمسى المرتابون وأخذوا مضاجعهم في أحسن صورة مع نسائهم آمنين وكان آخر الليل مسخهم الله تعالى خنازير وأصبحوا يتبعون الأقذار في الكناسات.
وأخرج أبو الشيخ عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه أن عيسى عليه الصلاة والسلام قال لبني اسرائيل: هل لكم أن تصوموا ثلاثين يومًا ثم تسالوه فيعطيكم ما سألتم فإن أجر العامل على من عمل له ففعلوا ثم قالوا: يا معلم الخير قلت لنا: إن أجر العامل على من عمل له وأمرتنا أن نصوم ثلاثين يومًا ففعلنا ولم نكن نعمل لأحل ثلاثين يومًا إلا أطعمنا {فَهَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مّنَ السماء} إلى قوله تعالى: {أَحَدًا مّن العالمين} فأقبلت الملائكة تطير ائدة من السماء عليها سبعة أحوات وسبعة أرغفة حتى وضعتها بين أيديهم فأكل منها آخر الناس كما أكل أولهم. وجاء عنه أن المائدة كانت تنزل عليهم حيث نزلوا، وعن وهب بن منبه أن المائدة كان يقعد عليها أربعة آلاف فإذا أكلوا شيئًا أبدل الله تعالى مكانه مثله فلبثوا بذلك ما شاء الله عز وجل:

.تفسير الآية رقم (116):

{وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (116)}
{وَإِذْ قَالَ الله ياعيسى عِيسَى ابن مَرْيَمَ} عطف على {إِذْ قَالَ الحواريون} [المائدة: 112] منصوب بما نصبه من الفعل المضمر أو ضمر مستقل معطوف على ذلك. وصيغة الماضي لما مضى. والمراد يقول له عليه الصلاة والسلام: {ءأَنْتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتخذونى وَأُمّىَ إلهين مِن دُونِ الله} يوم القيامة توبيخًا للكفرة وتبكيتًا لهم باقراره عليه الصلاة والسلام على رؤوس الأشهاد بالعبودية وأمرهم بعبادته عز وجل. وقيل: قاله سبحانه له عليه الصلاة والسلام في الدنيا وكان ذلك بعد الغروب فصلى عليه الصلاة والسلام المغرب ثلاث ركعات شكرًا لله تعالى حين خاطبه بذلك، وكان الأولى: لنفي الألوهية عن نفسه. والثانية: لنفيها عن أمه. والثالثة: لإثباتها لله عز وجل. فهو عليه الصلاة والسلام أول من صلى المغرب ولا يخفى أن ما سيأتي إن شاء الله تعالى في الآيات يأبى ذلك ولا يصح أيضًا خبر فيه. ثم إنه ليس مدار أصل الكلام عند بعض المحققين أن القول متيقن والاستفهام لتعيين القائل كما هو المتبادر من إيلاء الهمزة المبتدأ على الاستعمال المشهور وعليه قوله تعالى: {قَالُواْ ءأَنْتَ فَعَلْتَ هذا} [الأنبياء: 62] ونحوه بل على أن المتيقن هو الاتخاذ. والاستفهام لتعيين أنه بأمره عليه الصلاة والسلام أو أمر من تلقاء أنفسهم كما في قوله تعالى: {أَضْلَلْتُمْ عِبَادِى هَؤُلاَء أَمْ هُمْ ضَلُّوا السبيل قَالُواْ} [الفرقان: 17] وقال بعض: لما كان القول قد وقع من رؤسائهم في الضلال كان مقررًا كالاتخاذ فالاستفهام لتعيين من صدر منه فلذا قدم المسند إليه، وقيل: التقديم لتقوية النسبة لأنها بعيدة عن القبول بحيث لا تتوجه نفس السامع إلى أن المقصود ظاهرها حتى يجيب على طبقه فاحتاجت إلى التقوية حتى يتوجه إليها المستفهم عنها، وفيه كمال توبيخ الكفرة بنسبة هذا القول إليه.
وفي قوله: {اتخذونى وَأُمّىَ} دون واتخذوني ومريم توبيخ على توبيخ كأنه قيل: أأنت قلت ما قلت مع كونك مولودًا وأمك والدة والإله لا يلد ولا يولد.
وأنت تعلم أن في ندائه عليه الصلاة والسلام على الكيفية المذكورة إشارة إلى إبطال ذلك الاتخاذ. ولام {لِلنَّاسِ} للتبليغ، والاتخاذ إما متعد لاثنين فالياء مفعوله الأول و{إلهين} مفعوله الثاني وإما متعد لواحد فإلهين حال من المفعول و{مِن دُونِ الله} حال من فاعل الاتخاذ أي متجاوزين الله تعالى أو صفة لإلهين أي كائنين من دون الله تعالى أي غيره منضمًا إليه سبحانه فالله تعالى إله وهما بزعم الكفرة إلهان فالمراد اتخاذهما بطريق اشتراكهما معه عز وجل. وهذا كما في قوله تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاء شفعاؤنا عِندَ الله} إلى قوله سبحانه: {سُبْحَانَهُ وتعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [يونس: 18] وأيد ذلك بأن التوبيخ والتبكيت إنما يتأتى بذلك. وقال الراغب: إن ظاهر ذلك القول استقلالهما عليهما الصلاة والسلام بالألوهية وعدم اتخاذ الله سبحانه وتعالى معهما إلهًا ولابد من تأويل ذلك لأن القوم ثلثوا والعياذ بالله تعالى فإما أن يقال: إن من أشرك مع الله سبحانه غيره فقد نفاه معنى لأنه جل شأنه وحده لا شريك له ويكون إقراره بالله تعالى كلا إقرار. وحينئذٍ يكون {مِن دُونِ الله} مجازًا عن مع الله تعالى أو يقال: إن المراد بمن دون الله التوسط بينهما وبينه عز شأنه فيكون الدون إشارة لقصور مرتبتهما عن مرتبته جل جلاله لأنهم قالوا: هو عز اسمه كالشمس وهما كشعاعها. وزعم بعضهم أن المراد اتخاذهما بطريق الاستقلال. ووجهه أن النصارى يعتقدون أن المعجزات التي ظهرت على يدي عيسى وأمه عليهما الصلاة والسلام لم يخلقها الله تعالى بل هما خلقاها فصح أنهم اتخذوهما في حق بعض الأشياء إلهين مستقلين ولم يتخذوه إلهًا في حق ذلك البعض، ولا يخفى أن الأول كالمتعين وإليه أشار العلامة ونص على اختياره شيخ الإسلام.
واستشكلت الآية بأنه لا يعلم أن أحدًا من النصارى اتخذ مريم عليها السلام إلهًا. وأجيب عنه بأجوبة. الأول: أنهم لما جعلوا عيسى عليه الصلاة والسلام إلهًا لزمهم أن يجعلوا والدته أيضًا كذلك لأن الولد من جنس من يلده فذكر {إلهين} على طريق الإلزام لهم. والثاني: أنهم لما عظموها تعظيم الإله أطلق عليها اسم الإله كما أطلق اسم الرب على الأحبار والرهبان في قوله تعالى: {اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أَرْبَابًا مّن دُونِ الله} [التوبة: 31] لما أنهم عظموهم تعظيم الرب. والتثنية حينئذٍ على حد القلم أحد اللسانين. والثالث: أنه يحتمل أن يكون فيهم من قال بذلك. ويعضد هذا القول ما حكاه أبو جعفر الإمامي عن بعض النصارى أنه قد كان فيما مضى قوم يقال لهم: المريمية يعتقدون في مريم أنها إله. وهذا كما كان في اليهود قوم يعتقدون أن عزيرًا ابن الله عز اسمه وهو أولى الأوجه عندي. وما قرره الزاعم من أن النصارى يعتقدون إلخ غير مسلم في نصارى زماننا ولم ينقله أحد ممن يوثق به عنهم أصلًا. وإظهار الاسم الجليل لكونه في حيز القول المسند إلى عيسى عليه الصلاة والسلام.
{قَالَ} استئناف مبني على سؤال نشأ من صدر الكلام وهو ظاهر. وفي بعض الآثار أنه عليه الصلاة والسلام حين يقول له الرب عز وجل ما يقول ترتعد مفاصله وينفجر من أصل كل شعرة من جسده عين من دم خيفة من ربه جلت عظمته، وفي بعضها أنه عليه الصلاة والسلام يرتعد خوفًا ولا يفتح له باب الجواب خمسمائة عام ثم يلهمه الله تعالى الجواب بعد فيقول: {سبحانك} أي تنزيهًا لك من أن أقول ذلك أو يقال في حقك كما قدره ابن عطية، وقدره بعضهم من أن يكون لك شريك فضلًا من أن يتخذ إلهان دونك، وآخرون من أن تبعث رسولًا يدعى ألوهية غيرك ويدعو إليها ويكفر بنعمتك، والأول أوفق بسياق النظم الكريم.
وسبحان على سائر التقادير على أحد الأقوال فيه وقد تقدمت علم للتسبيح وانتصابه على المصدرية ولا يكاد يذكر ناصبه. وفيه من المبالغة في التنزيه من حيث الاشتقاق من السبح وهو الإبعاد في الأرض والذهاب، ومن جهة النقل إلى صيغة التفعيل والعدول عن المصدر إلى الاسم الموضوع له خاصة المشير إلى الحقيقة الحاضرة في الذهن وإقامته مقام المصدر مع الفعل ما لا يخفى.
وقوله سبحانه: {مَا يَكُونُ لِى أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِى بِحَقّ} استئناف مقرر للتنزيه ومبين للمنزه عنه. وما الثانية سواء كانت موصولة أو نكرة موصوفة مفعول {أَقُولُ} والمراد بها على التقديرين القول المذكور أو ما يعمه وغيره ويدخل فيه القول المذكور دخولًا أوليًا، ونصب القول للمفردات نحو الجملة والكلام والشعر مما لا شك في صحته كنصبه الجمل الصريحة فلا حاجة إلى تفسير أقول بأذكر كما يتوهم. واسم {لَّيْسَ} ضمير عائد إلى ما و{بِحَقّ} خبره، والجار والمجرور فيما بينهما للتبيين فيتعلق حذوف كما في سقيا لك. وإيثار ليس على الفعل المنفي على ما يحق لي لظهور دلالته على استمرار انتفاء الحقيقة وإفادة التأكيد بما في خبره من الباء المطرد زيادتها في خبر ليس. ومعنى {مَا يَكُونُ لِى} أي لا ينبغي ولا يليق وهو أبلغ من لم أقله فلذا أوثر عليه: والمراد لا ينبغي أن أقول قولًا لا يحق لي قوله أصلًا في وقت من الأوقات، وجوز أبو البقاء أن يكون {لِى} خبر ليس و{بِحَقّ} في موضع الحال من الضمير في الجار والعامل فيه ما فيه من معنى الاستقرار. وأن يكون متعلقًا بفعل محذوف على أنه مفعول له والباء للسببية أي ما ليس يثبت لي بسبب حق. وأن يكون خبر ليس و{لِى} صفة حق قدم عليه فصار حالًا، وهذا مخرج على رأي من أجاز تقديم حال المجرور عليه، وقيل: إن {لِى} متعلق بحق وهو الخبر. وهو أيضًا مبني على قول بعض النحاة المجوز تقديم صلة المجرور على الجار. والجمهور على عدم الجواز ولا فرق عندهم في المنع بين أن يكون الجار زائدًا أو غيره.
وقوله عز وجل: {إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ} استدلال على براءته من صدور القول المذكور عنه فإن صدوره عنه مستلزم لعلمه به تعالى قطعًا والعلم به منتف فينتفي الصدور ضرورة أن انتفاء اللازم مستلزم لانتفاء الملزوم.
واستشكلت هذه الجملة بأن المعنى على المضي هنا وأن تقلب الماضي مستقبلًا. وأجاب عن ذلك المبرد بأن كان قوية الدلالة على المضي حتى قيل إنها موضوعة له فقط دون الحدث وجعلوه وجهًا لكونها ناقصة فلا تقدر إن على تحويلها إلى الاستقبال. وأجاب ابن السراج بأن التقدير إن أقل كنت قلته إلخ وكذا يقال فيما كان من أمثال ذلك، وقد نقل ذلك عثمان بن يعيش وضعفه ابن هشام في «تذكرته»، والجمهور على أن المعنى إن صح قولي ودعواي ذلك فقد تبين علمك به.
{تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِى} استئناف جار مجرى التعليل لما قبله فقوله جل شأنه: {وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} بيان للواقع وإظهار لقصوره عليه السلام، وللنفس في كلامهم إطلاقات فتطلق على ذات الشيء وحقيقته وعلى الروح وعلى القلب وعلى الدم وعلى الإرادة، قيل: وعلى العين التي تصيب وعلى الغيب وعلى العقوبة. ويفهم من كلام البعض أنها حقيقة في الإطلاق الأولي مجاز فيما عداه، وفسر غير واحد النفس هنا بالقلب، والمراد تعلم معلومي الذي أخفيه في قلبي فكيف بما أعلنه ولا أعلم معلومك الذي تخفيه وسلك في ذلك مسلك المشاكلة كما في قوله:
قالوا اقترح شيئًا نجد لك طبخه ** قلت اطبخوا لي جبة وقميصًا

إلا أن ما في الآية كلا اللفظين وقع في كلام شخص واحد وما في البيت ليس كذلك. وفي الدر المصون أن هذا التفسير مروى عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وحكاه عنه أيضًا في مجمع البيان. وفسرها بعضهم بالذات وادعى أن نسبتها بهذا المعنى إلى الله تعالى لا تحتاج إلى القول بالمشاكلة، ومن ذلك قوله تعالى: {كَتَبَ رَبُّكُمْ على نَفْسِهِ الرحمة} [الأنعام: 54] {واصطنعتك لِنَفْسِى} [طه: 41] {وَيُحَذّرُكُمُ الله نَفْسَهُ} [آل عمران: 28 و30] وقوله صلى الله عليه وسلم: «أقسم ربي على نفسه أن لا يشرب عبد خمرًا ولم يتب إلى الله تعالى منه إلا سقاه من طينة الخبال» وقوله عليه الصلاة والسلام: «ليس أحد أحب إليه المدح من الله عز وجل ولأجل ذلك مدح نفسه» وقوله صلى الله عليه وسلم: «سبحان الله عدد خلقه ورضا نفسه» إلى غير ذلك من الأخبار.
وقال المحقق الشريف في شرح المفتاح وغيره: إن لفظ النفس لا يطلق عليه تعالى وإن أريد به الذات إلا مشاكلة وليس بشيء لما علمت من الآيات والأحاديث، وادعاء أن ما فيها مشاكلة تقديرية كما قيل ذلك في قوله تعالى: {صِبْغَةَ الله ومَنْ أَحْسَنَ مِنَ الله صِبْغَةً} [البقرة: 138] لا يخفى أنه من سقط المتاع فالصحيح المعول عليه جواز إطلاقها عنى الذات على الله تعالى من غير مشاكلة، نعم قيل: إن لفظ النفس في هذه الآية وإن كان عنى الذات لابد معه من اعتبار المشاكلة لأن لا أعلم ما في ذاتك ليس بكلام مرضي فيحتاج إلى حمله على المشاكلة بأن يكون المراد لا أعلم معلوماتك فعبر عنه بلا أعلم ما في نفسك لوقوع التعبير عن تعلم معلومي بتعلم ما في نفسي.
وعلى ذلك حمل العلامة الثاني كلام صاحب الكشاف ولا يخفى ما فيه، والتحقيق أن الآية من المشاكلة إلا أنها ليست في إطلاق النفس بل في لفظ {فِى} فإن مفادها بالنظر إلى ما في نفس عيسى عليه السلام الارتسام والانتقاش ولا يمكن ذلك نظرًا إلى الله تعالى. وإلى هذا يشير كلام بعض المحققين ومنه يعلم ما في كتب الأصول من الخبط في هذا المقام، وقال الراغب: يجوز أن يكون القصد إلى نفي النفس عنه تعالى فكأنه قال: تعلم ما في نفسي ولا نفس لك فأعلم ما فيها كقول الشاعر:
ولا ترى الضب بها ينجحر

وهو على بعده مما لا يحتاج إليه. ومثله ما ذكره بعض الفضلاء من أن النفس الثانية هي نفس عيسى عليه السلام أيضًا، وإنما أضافها إلى ضمير الله تعالى باعتبار كونها مخلوقة له سبحانه كأنه قال: تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما فيها.
{إِنَّكَ أَنتَ علام الغيوب} تقرير لمضمون الجملتين منطوقًا ومفهومًا لما فيه من الحصر ومدلوله الإثبات فيقرر {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِى} لأن ما انطوت عليه النفوس من جملة الغيوب ويلزمه النفي فيقرر لا أعلم ما في نفسك لأنه غيب أيضًا، ومدلول النفي أنه لا يعلم الغيب غيره تعالى شأنه.